بناء المسجد الأقصى وتاريخه

من الذي بنى الأقصى؟

يعد المسجد الأقصى واحداً من أقدس الأماكن الدينية في العالم الإسلامي، وهو يشغل مكانة عظيمة في قلوب المسلمين وفي تاريخهم الديني والسياسي على حد سواء. تثير عملية بناء هذا المسجد العظيم العديد من الأسئلة المتعلقة بمن قام ببنائه، وكيفية تطور بنائه على مر العصور. ومع أن المسجد الأقصى اليوم يبدو وكأنه بني في فترة معينة من الزمان، إلا أن نشأته تاريخياً تتوزع عبر مراحل عدة، إذ مر هذا المعلم الديني الشامخ بتطورات كبيرة منذ تأسيسه وحتى العصر الحديث. في هذا المقال، سنبحث في تاريخ بناء المسجد الأقصى، وتفاصيل من قام بتأسيسه، والأحداث الهامة المرتبطة به.

البداية: المسجد الأقصى في الكتابات الإسلامية القديمة

المسجد الأقصى، كما ورد في القرآن الكريم، يعتبر أولى القبلتين، فقد كان قبل أن يُحول المسلمون إلى قبلة مكة، مكان صلاة المسلمين الأول. يقول الله تعالى في القرآن الكريم في سورة الإسراء: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا” (الإسراء: 1). هذه الآية تكشف أن المسجد الأقصى كان مركزاً مهماً في حياة المسلمين منذ بداية الإسلام.

أما من الناحية التاريخية، فإن المسجد الأقصى، كما هو معروف في الوقت الحالي، تم بناءه في عدة مراحل، حيث لم يكن بناؤه محصوراً في شخص واحد، بل تطور عبر عدة مراحل زمنية في العصور المختلفة، بدءًا من مرحلة ما قبل الإسلام.

الفترة ما قبل بناء المسجد: المكان والموقع

قبل أن يكون هناك مسجد في الموقع الذي يشغله المسجد الأقصى اليوم، كانت منطقة القدس تُعد من المواقع الدينية الهامة في التاريخ القديم. ففي العصور القديمة كان هناك هيكل سليمان، الذي يعتبره اليهود مكانًا مقدسًا. وفقًا للكتاب المقدس، فإن هيكل سليمان كان قد بناه الملك سليمان بن داود في القرن العاشر قبل الميلاد. ورغم أنه تم تدميره في عهود مختلفة، إلا أن موقع الهيكل ظل مكانًا ذا قداسة للمجتمعات اليهودية والمسيحية على مر العصور.

لكن في عام 638 ميلادي، وفي فترة الخلافة الإسلامية، أقبل الصحابي الجليل الخليفة عمر بن الخطاب على القدس ليعقد اتفاقًا مع أهلها بعد أن فتحها المسلمون. ويقال أن الخليفة عمر بن الخطاب قد دخل المدينة وتوجه مباشرة إلى موقع المسجد الأقصى، وكان ذلك في العام 15 هـ.

بناء المسجد الأقصى: دور الخليفة عمر بن الخطاب

رغم أن البعض قد يعتقد أن المسجد الأقصى قد تم بناءه بالكامل في فترة واحدة أو من قبل شخص واحد، إلا أن هذا ليس صحيحًا بالتمام. فالحديث عن بناء المسجد الأقصى على يد الخليفة عمر بن الخطاب هو في الواقع جزء من تاريخ تطور هذا الموقع.

عندما استلم عمر بن الخطاب مفاتيح مدينة القدس بعد فتحها، قام بزيارة الموقع الذي كان مخصصًا لهدم الهيكل القديم، وكان هذا الموقع يُعرف بـ “جبل الهيكل” في عصور ما قبل الإسلام. كان عمر بن الخطاب يشاهد هذا المكان بتقدير كبير، وقرر أن يحول هذا الموقع إلى مسجد لصلاة المسلمين. وفي هذا الإطار، توجيهًا لرؤية إيمانية ورغبة في وضع معلم إسلامي عظيم، بدأ بناء المسجد الأقصى في عام 637 ميلادي.

يقال أن الخليفة عمر بن الخطاب قد صلَّى في هذا المكان خلال زيارته للقدس بعد فتحها. وفي الوقت نفسه، قام بتحديد موقع المسجد الكبير الذي سيُبنى في تلك البقعة. تروي بعض الروايات أن الخليفة عمر قد رفض بناء المسجد في المكان الذي كان مهدمًا، بل اختار مكانًا منخفضًا قرب الحائط الغربي ليكون أساس بناء المسجد.

إتمام البناء وتوسعاته

بدأ العمل على بناء المسجد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لكن بسبب ضيق الموارد والوقت، لم يكن البناء كاملًا. خلال فترة الحكم الأموي، وخاصة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان (685 – 705م)، شهد المسجد الأقصى تطورًا كبيرًا وتوسعة واسعة. فخلال هذه الفترة، تم بناء القبة الشهيرة التي تُعتبر واحدة من أبرز معالم المسجد الأقصى المعمارية. قامت الدولة الأموية بتوسيع الهيكل المعماري للمسجد وبنائه بشكل كامل، حيث شُيدت القبة الذهبية التي نراها اليوم.

استمر العمل في المسجد الأقصى في فترات مختلفة من التاريخ، حيث شهد المسجد عمليات توسعة وترميمات عديدة على مر العصور الإسلامية. في العصور العباسية والفاطمية، شهد المسجد الكثير من التحديثات في المعمار والزخرفة، ما جعل المسجد الأقصى يكتسب مكانة بارزة في تاريخ الفن المعماري الإسلامي.

التطورات في العصور المختلفة

في العصور التالية من تاريخ الخلافات الإسلامية، مثل العهد الأيوبي والعثماني، استمرت أعمال التجديد والإصلاح. ولكن تظل فترة الخلافة الأموية هي الأبرز فيما يخص بناء المسجد الأقصى. كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قد أمر بترميم المسجد وإعمار أركانه.

أما في العهد العثماني، فقد قام السلطان العثماني سليمان القانوني بتجديد العديد من أجزاء المسجد، وتوسيع أسطحه وأسواره. كما أضاف العديد من المرافق حول المسجد مثل الأروقة والساحات.

المسجد الأقصى اليوم: مرحلة العصر الحديث

في العصر الحديث، يعتبر المسجد الأقصى جزءًا من التراث الإسلامي المعماري. فقد مرَّ المسجد بالعديد من الأحداث السياسية التي أثرت في سير تاريخ بناءه وصيانته. فبعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس في عام 1967، تعرض المسجد الأقصى للعديد من التعديات والتهديدات، لكن بفضل صمود الفلسطينيين وتعاونهم مع العديد من الجهات العربية والإسلامية، لا يزال المسجد الأقصى قائمًا اليوم كأحد أروع المعالم الدينية في العالم.

خاتمة

مسيرة بناء المسجد الأقصى ليست حكراً على شخص واحد، بل هي عملية مستمرة من التوسعة والصيانة والإصلاح عبر العصور المختلفة. من عمر بن الخطاب الذي بدء في تأسيسه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان الذي طوّر المعمار ليصل إلى جماله الحالي، يظل المسجد الأقصى علامة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية. رغم كل التحديات والأحداث التي مر بها، يظل المسجد الأقصى واحداً من أقدس الأماكن في العالم ويعكس عبر أبعاده التاريخية والإيمانية قوة الدين الإسلامي وتأثيره في المجتمع العربي والإسلامي.